الاثنين، 10 مارس 2014


مفهوم القراءة في النقد الأدبي الحديث


د. سامي محمد عبابنة




"القراءة لم تصادف رجلها: بروب أو سوسير"
رولان بارت
     لقد بدا مصطلح القراءة واحدًا من أكثر المصطلحات رواجًا وانتشارًا في الدراسات النقدية، وهو من معطيات الاتجاهات النقدية في القرن العشرين، وما تود هذه الورقة أن تقـدمه هو بيان هذا التطور والتحول في مفهوم القـراءة في النـقد الأدبي الحديث بعيدًا عن  البعد الفلسفي الذي يرتبط به أو بالاتجاه النقدي ما أمكن، وهذا المسعى يرتبط  تحديدًا - بمفهوم القراءة باعتباره مفهومًا إجرائيًا في معاينـة النص، دون استظهار العلاقات كافة التي يثيرها هذا المفهوم في النظرية الأدبية المعاصرة.
من المعروف أن القارئ، الذي يعد واحدًا من أهم المعطـيات التي تقوم عليـها نظرية الأدب، قد أخذ مكانته التامة والكاملة في اتجاهات ما بعد البنيوية، ولكن ذلك لا يعني- بأي حال- أنه قد كان غائبًا عن التصورات النقدية السابقة على ذلك، فكل اتجاه في نظرية الأدب لا بد أن يصوغ تصوره للركائز الأساسية التي يتعامل معها؛ والقارئ إحداها، بيد أن ما هو مختلف هو الدور الذي يعطى للقارئ، من حيث مقداره وقيمته وطبيعته وعلاقاته مع بقية الركـائز الأخرى، وهذا ما يوضح مفهوم القـراءة في هذه الاتجاهات.
لقد أثـيرت مسألة القراءة مع بروز الدراسـات الثقافية التي كانت صدى لطرح الشاعر والناقد الإنجليزي ماثيـو آرنولد (Mathew Arnold) في نهاية القرن التاسع عشر، و تمخض عنها دعوى لا إنسـانية إنجلترا الرأسمـالية الصنـاعية، مما دفع النـاقد أ.أ رتشاردز(I.A Richards)
إلى رفض طريقة التعامل مع الأدب التي كانت سائدة في جامعة كيمبردج من خلال مجمـوعة من النبلاء الذين شغـلوا كـرسي الأدب فيها إبان الحـرب العالمية الأولى وما بعدها، فقـدم مجموعة أعمـال نقديـة كانت تمثل اللبنة الأساسية لمـا عرف بالنقد الجديد الأنجلو-أمريـكي (Anglo-American New Criticism) حيث ركز - بشكل خاص - في "مبـادئ النقد الأدبي" و"النقد العملي" على تحليل عملية القراءة، فقد كان يرى "أن النقاد يحتاجون إلى أمرين كانوا عادة يفتقرون إليهما عندما كتب مؤلفاته...، هما: نظرية في الاتصال ونظرية في التقويم، كل منهما مرتكزة على الأخرى، وحيث إن ريتشاردز يـرى أن الأدب والشعر خصوصًا يرتكز على الوظيفة الانفعـالية (emotive) التي تستخـدم الكلمات بغرض إثارة مشاعر أو مواقف ذاتية"[1] إزاء العالم الموضوعي سواء من المؤلف أو القارئ، هذا الأمر دفعه إلى تحليل عملية القراءة من الناحية الانفعالية عند القارئ.
      وقد أقام تجربته المعروفة في تلقي الشعر، فاختـار ثلاث عشرة قصيدة لشعـراء مختلفين وقدمها لمجموعة من القراء معظمهم من طلاب الجامعة المتخصصين في الأدب الإنجليزي، وأخفى أسماء الشعراء، ثم طلب منهم قراءة هذه القصائد، وتقديم تعليقاتهم عليها دون ذكر أسمائهم، فكانت أحكامهم متفاوتة بين الإعجاب الشديد والإرذال المطلق، وكانت أقلها حظًا من الإعجاب خمس قصائد لخمسة من أكبر الشعراء الإنجليز، وقـد استنتج من ذلك نتيجتين: إحداهما تتعلق بحال الثقافة الأدبية في البيئات الجامعية التي أجرى فيها بحثه...، والأخرى تتعلق بصعوبة التوصل إلى حكم سليم على أي أثـر أدبي، ولا سيما إذا كان أثرًا  ممتازًا[2].
     وقد أشار شكري عياد إلى أن النتيجة الأولى تخص طرق تدريس الأدب في الجامعات في وقته[3]، فالطرح التجريبي للقراءة لدى ريتشاردز في "النقد العملي" كان بمثابة رؤية علاجية لذلك التقليد الذي كان سائدًا[4].
لقد كان طرح ريتشاردز مثيرًا في دفع النقد نحو تناول النص الأدبي، وليس مجرد الاهتمام بتاريخ الأدب أو النص، لكن مفهوم القراءة الذي يقدمه بقي مرهونًا بما يطرحه النص الأدبي، لا ما يطرحه القارئ، أي أن القراءة التي يمثلها طرحه هي قراءة الاستجابة لما يشتمل عليه النص، بحيث تكون "غاية الناقد هي التوصل إلى "الحالة الذهنية المناسبة" المرتبطة بذلك النص"[5]، وهي الحالة نفسها التي انتابت المؤلف عند كتابته، فالقراءة بذلك - استجابة سلبية للنص إذا ما نظر إليها من زاوية القارئ الذي لا يفعل شيئًا سوى أن يعيد الحالة الذهنية للمؤلف من خلال استجابته للنص.
في الفترة ذاتها، وفي نفس البيئة في جامعة كيمبردج، رفض الناقد إف آر. ليفز(F.R. Leavis) القيام بتحليل سياسي للنظام، وبالتالي انخرط في تحليل الحياة الخلاقة - العفوية[6]،                                                   ورفض ما يفعله النبلاء الذين شغلوا كرسي الأدب في كيمبردج، هذا الطرح الذي قدمه ليـفز أدى - في بداية الثلاثينيات - إلى نشوء مجلة التمحيص (Scrutiny) التي أسسها ليفز و زوجه، وقد قامت رؤية مفادها أن "من الممكن تفادي انحطاط الغرب من خلال القراءة الدقيقة"[7]، معلية بذلك من شأن تحليل النصوص الثقافية الشعبية والقصص الشعبي والإعلان والصحف، في الفترة التي ساد فيها نقد مادي يقيم اهتماماته على التاريخية فقط، ويقوم مفهوم القراءة الدقيقة على تناول النص على حدة، دون الاهتمام بالسياقات التي تنتجه أو تحيط به، فشجعت – بذلك - إمكانية دراسة أية قطعة لغوية، أدبية كانت أم غير أدبية دراسة وافية، أو حتى فهمها بمعزل عن أي شيء آخر[8].
      إن هذه النظرة لمفهوم القراءة قد شهدت تحولاً ملحوظًا في التفكير النقدي ضمن اتجاه النقد الأمريكي الجديد في الأربعينيات من القرن العشرين مع وليم ك. ومسات (W.K. Wimsatt) ومونرو بيردزلي (Monroe Beardsley)، فقد أدى طرحهما إلى تراجع أهمية القراءة إثر تقديمهما لمقالتين مثيرتين هما: "مغالطة القصد" (The intentional fallacy)، و"مغالطة الأثر" (The effective fallacy)، فقد أكدا أن "القصيدة تعني ما تعنيه، بصرف النظر عن نوايا الشاعر أو المشاعر الذاتية التي يستمدها القارئ منها، فالمعنى عام وموضوعي، منقوش في لغة النص الأدبي ذاتها، وليس مسألة "دافع" شبحي مزعوم في رأس مؤلف مات منذ زمن بعيد، أو دلالات خصوصية اعتباطية قد ينسبها قارئ إلى كلمات هذا المؤلف"[9]، وأكدا في المقالة الثانية أن الأثر الذي ينجم عن قراءة النص هو أثر خارج عن السيطرة يبدو كفوضى بين القصيدة وعوامل إنتاجها مما يجعل العمل يبدو مستقلاً ويمنع قصد القراء الدقيق[10]، وقد أفضى بهما ذلك – بالتالي - إلى الاهتمام بالناحية الشكلية للعمل الأدبي وخصوصيته الفنية؛ لتنغلق القراءة على النص في ذاته فيما عرف لديهم بالقراءة المغلقة "Close Reading".
 لاشك في أن أي تزايد في الاهتمام بالشكلية سيدفع النقد نحو تقليل دور القارئ، وعلى الرغم من أن الدعوى الشكلانية (Formalism) التي قدمها الشكلانيون الروس قد جعلت من الشكل الأدبي معطى قابلاً للإدراك من خلال العمليات التي قدموها من أجل تحليله، إلا أن هذا الإدراك لم يكن أكثر من براعة نقدية في اكتشاف ما هو موجود في النص، أو ربما بقدر أقل مما يعرضه النص الأدبي.
الأمر ذاته ينطبق على ما قدمته البنيوية إثر استغراقها في البحث عن البنية وتجلياتها في النصوص الأدبية، حيث غدت اللغة بعد نشر محاضرات ف. دي سوسير (F. de. Saussure) شكلاً وليس مادة باعتبارها نسقًا، ونظامًا مغلقـًا مشتملاً على طرفين هما الدال والمدلول، وبذلك فلا وجود للأفكار قبل اللغة، ولا يمكن أن تميز هذه الأفكار قبل ظهور اللغة كما يشير سوسير[11]، وبذلك تكون البنيوية قد أطاحت بأولية الذاتية "بنقل إطار التحليل من مستوى المقاصد الذاتية إلى مستوى البنى اللغوية والسيميائية"[12]، والإطاحة بمقاصد الذاتية للمؤلف ضمن الطرح البنيوي لن ينجم عنه – بالتأكيد - ظهور المقاصد الذاتية للقارئ، فكلاهما سجين بنية اللغة المهيمنة، لكن ذلك لا يلغي  وجود القارئ في الطرح البنيوي عمومًا، إذ البنيوية تقيم تصوراتها لا على أساس أن النص الأدبي هو تجسيد لبنية اللغة فحسب، ولكنها تسعى في اتجاهاتها المتعددة إلى افتراض وجود منظومة أدبية عامة مؤسسية، تشكل خطابًا مضمنًا في الثقافة، يجسد مجموعة أعراف (Conventions) تفرض نفسها لا على المؤلف وحده، بل على القـارئ أيضًا، بحيث تصبح لهجة مؤسـسة الأدب هي ما يتم البحث عنه لا لهجة المؤلف، وهذا يتطلب من القراء معرفة أعراف القـراءة (Conventions of Reading)  ليتمكنوا من التعامل مع النص الأدبي على أنه أدب، وعلى هذا الأساس يتم التعامل مع التغييرات الحداثية للأدب وتطبيعها كما يفعل بارت (Barthes)[13]،
وقد كان هذا مما دفع النـاقد الأمريكي جوناثان كولر (Jonthen Culler) إلى تبني مفهوم الكـفاءة الأدبية (Literary Competence) مستفيدًا من مصطلح شومسكي (Chomsky) الكفاءة اللغوية، الذي يكتسبه القارئ نتيجة خبرته في التعامل مع الأدب بحيث تشكل لديـه معرفة ضمنية تمـكنه من قراءة الأدب بشكل يتوافق مع أعراف الكيان الأدبي[14]، وطرح هذا المفهوم (الكفاءة الأدبية) يبدو محاولةً للتخلص من صرامة البنيوية.


     إن مفهوم القراءة في الطرح البنيوي يبقي ذات القارئ لا تحفل بحضورها الكامل كذات واعية مستقلة، فالقارئ المثالي عند جوناثان كولر هو"أساس تنظيري"[1]، وهذا يرجع في المحصلة النهائية إلى نظرة البنيوية للذات، فبارت يرى أن الذات ليست امتلاءً فرديًا وليست اللغة هي محمول الذات، بل إن اللغة هي الذات، ولذلك فالكتابة لا تقوم على الصفات الداخلية للذات، ولكن على غيابها[2]، وبالتالي فالناقد في تعامله مع النص الأدبي إنما ينطلق من منظومة اللغة والثقافة التي تشكل ذاته.
     والبنيوية من جهة أخرى كانت قد أفضت إلى السيميائية (Semiotics)، وفي بداية الأمر لم تأخذ باعتبارها سوى "دراسة الأشكال لأنها تقوم بدراسة الدلالات بمعزل عن مضمونها "كما قدمها بارت في الخمسينيات[3]، وأكد بعد ذلك أنها ليست تأويلاً، فهي تصور أكثر مما تنقب[4].




1] ] جفرسون.آن،وروبي.ديفيد:النظرية الأدبية الحديثة، ترجمة سمير مسعود، منشورات وزارة الثقافة،  دمشق،1992،(125) .
[2] عياد، شكري: دائرة الإبداع مقدمة في أصول النقدw,g hgkr]، دار إلياس العصرية، القاهرة، بدون  تاريخ، (44 ـ 45).
[3] المرجع السابق، (45).
[4] Fowler, Roger: A Dictionary Of Modern Critical Terms, Routiedge & Kegan Paul, London and New York, second  published in 1987, (197).                                                                              
[5] جفرسون، آن وروبي، ديفيد : مرجع سابق، (129).
[6] إيغلتون، تيري: نظرية الأدب، ترجمة ثائر ديب، منشورات وزارة الثقافة، 1995، (81).
[7] المرجع السابق، (67).
[8] المرجع السابق، (84).
[9] المرجع السابق، (90).
[10] Fowler, Roger: مرجع سابق، (195).
[11] سوسير: علم اللغة العام، ترجمة يوئيل يوسف عزيز، مراجعة مالك مطلبي، بيت الموصل، 1988، (131).
[12] ريكور، بول: الوجود والزمان و السرد، ترجمة: سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، بيروت ، ط1 ، 1999،(274).
[13] المرجع السابق ، (135) 0
[14] كولر، جوناثان، الكفاءة الأدبية، ترجمة: علي الشرع، مجلة نوافذ، النادي الأدبي الثقافي، جدة، ع 11، ذو القعدة، 1420هـ -  2000، (63 ).